لطالما مثل القطن المصري علامة جودة تميزت بها مصر واعتمد عليه اقتصادها عبر السنين، إلا أن زراعته وصناعته في السنوات الأخيرة تواجه تحديات عديدة أصبح التغلب عليها ضرورة لكي يستعيد مكانته كأجود أنواع الأقطان في العالم.
ولا تتمثل تلك التحديات في الأمور الاقتصادية والزراعية فقط، بل أن هناك قيود قانونية كبلته وعطلت من تقدمه فى الانتاج والتسويق وهو ما دفع القاضي والمؤرخ القضائي الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة إلى وضع دراسة بعنوان (كيف يستعيد القطن المصرى سيادته على عرش العالم؟ القيود القانونية نالت من هيبته)، والتي تنقسم إلى ستة أجزاء.
ويتعرض الجزء الأول من الدراسة لفتوى مجلس الدولة عام 1948 بتصدير القطن المصرى لدول أوروبا بموافقة برلمانها كأقوى ضمان للفلاح المصري.
وأكد المستشار خفاجي في دراسته أن سيادة القطن المصري كانت قائمة على عرش العالم حتى في أحلك الظروف التي مرت بها مصر وقت الاحتلال البريطاني من خلال فتوى الرأي بمجلس الدولة عام 1948 في عهد أول رئيس لمجلس الدولة الدكتور محمد كامل مرسي باشا بتصدير القطن المصري لدول شرق أوروبا باشتراط موافقة برلمانها وليس بمجرد خطاب ضمان حماية للفلاح المصري.
وأوضح أن تلك الفتوى من الفتاوى الهامة في بداية تاريخ مجلس الدولة، وفقا لكتاب الدكتور محمد كامل مرسي باشا، - وهو أول رئيس لمجلس الدولة الفترة من 11 سبتمبر 1946 حتى فبراير 1949 - المؤرخ 3 يناير 1948 بكتابه رقم 1/57/1-6 طلب الرأي من حضرة صاحب العزة مستشار الدولة لإدارة الرأي لوزارتي الخارجية والعدل حول مشروع خطاب الضمان المقترح تقديمه من الحكومة البولونية بخصوص تصدير صفقة القطن المصري إليها. ووفقاً لمشروع کتاب الضمان المقترح تقديمه من الحكومة البولونية تنفيذاً لأحكام القانون رقم 88 لسنة 1946 فقد استعرض قسم الرأي مجتمعا هذا الموضوع بجلسته المنعقدة فى 4 من ديسمبر سنة 1947 وهو يلاحظ أن هذا الموضوع قد طرح للبحث بناء على طلب وزارة الخارجية مع أنها ليست صاحبة اختصاص أصيل في هذا الصدد، إذ أن دورها لا يعدو مجرد إبلاغ وجهة نظر وزارة المالية للسلطات الأجنبية والذي يمثل الحكومة في بيع القطن المصري في الخارج طبقا للقواعد الموضحة في القانون رقم 88 لسنة 1946 إنما هي وزارة المالية فهي التي يعنيها البت في الأمر .
وقالت الدراسة "أما عن الموضوع فيلاحظ أن الحكومات ذاتها ليست هي التي تتعاقد وتتعامل وإنما هي تتدخل فقط للقيام بدور الضمان تسهيلا لإتمام الإجراءات الخاصة بالتعاقد ولقد كان ذلك نتيجة للظروف التى طرأت عند نهاية الحرب إذ حدث عند فتح الأسواق التجارية في ذلك الوقت أن أحجم التجار في مصر عن التعامل مع دول شرق أوروبا لعدم اطمئنانهم إلى استقرارها ماليا، فتسهيلا لفتح الأسواق أمام القطن المصرى تقدمت الحكومة المصرية بقانون خاص بخصم الكمبيالات )القانون رقم 88 لسنة 1946 ( لإيجاد ضمان لمن يتعاملون مع تلك الدول، وقد نصت المادة الأولى منه على أن يؤذن للحكومة في أن تضمن لبنك مصر في حدود مبلغ خمسة ملايين من الجنيهات ما يخصمه من الكمبيالات التي يحصل عليها المصدرون عن صفقات بيع القطن المصري إلى الخارج الحاملة لضمان بنك المشتري وضمان حكومة الدولة المصدر إليها بالشروط والأوضاع التي يقرها مجلس الوزراء".
وأضافت أنه " مع ملاحظة أن المطالبة بالضمان المزدوج من بنك المشتري ومن حكومة الدولة المصدر إليها قد أصبح أمرا واجبا بمقتضى هذا التشريع ولا يغنى أحد الضامنين عن الآخر، فمن الواجب على بنك مصر، للاستفادة من حكم هذا القانون، ألا يخصم أية كمبيالة إلا عند وجود هذين الضمانين وإلا اعتبر تصرفه على مسئوليته الخاصة عند خوف عدم الوفاء بهذه الكمبيالات، إذ أن المتفق عليه كنتيجة للضمان القانوني بشأن هذه الكمبيالات أنه إذا قام بنك مصر بخصمها ثم لم يتمكن من الحصول على قيمتها من بنك المشتري فإن الحكومة تعتبر ضامنة للوفاء، فمتى كان الخصم أصلا في حدود مبلغ الخمسة ملايين من الجنيهات وفي هذه الحالة يتحمل التاجر المصدر 40% من الخسارة وتتحمل الحكومة المصرية 60% منها".
وأشار نائب رئيس مجلس الدولة في دراسته إلى أنه "قد سبق أن عقدت على أساس هذه الشروط صفقات تشيكوسلافاكيا ويوغوسلافيا، وإذا قيل بأن البنك الاقتصادى البولونی مؤسسة تابعة للدولة البولونية لتمويل الصناعة الوطنية والصناعة الأهلية فإن الوضع الاقتصادي لبولونيا في هذا الشأن لا يختلف عن الوضع الاقتصادي لهذين البلدين، ولذلك رأت وزارة المالية أنه لا محل للتفرقة في المعاملة بين هذه الدول، فضلاً عن أنه لابد من احترام أحكام القانون بوجود ضمان من الدولة بجانب ضمان البنك، وبالنسبة إلى موقف الحكومة البولونية من هذا الأمر فظاهر أنه ليس بموقف ضمان مع ما أوضحت من أن الضمان المطلوب لا يكون إلا بموافقة البرلمان. وأضاف "أما الإشارة إلى قيامها بالتسهيلات اللازمة لتدبر النقد الأجنبي فليس بالضمان القانوني اللازم ويحق لبنك مصر الامتناع عن خصم الكمبيالات في مثل هذه الحالة، ولا يمكن تعريض التجار المصريين لخطرها، ولقد كان ذلك ما دعا وزارة المالية إلى إبداء رأيها صراحة في الكتاب المرسل منها إلى وزارة الخارجية فى 11 نوفمبر سنة 1947 بعدم كفاية مشروع الكتاب الوارد من الحكومة البولونية في هذا الشأن".
واختتمت الدراسة جزأها الأول بالتأكيد على أن قسم الرأي "انتهى إلى أن مشروع خطاب الضمان المقترح لا يحقق الشروط الواجب توافرها في المادة الأولى من القانون رقم 88 لسنة 1946 بل يجب المطالبة بضمان قانوني من الحكومة البولونية ذاتها، ويبين من تلك الفتوى مدى تمتع سمعة القطن المصري مكان الصدارة عالمياً الذي يتم تصديره في ذلك الوقت لأوروبا وأن الضمان الحقيقي من حكومة الدول في أوروبا يأتي عن طريق موافقة برلمانها كأقوى ضمان يمكن أن يقدم إلى الفلاح المصري والتجار المصريين من مصدري القطن المصري صاحب الصدارة".